من كان في وسعه أن يتخيل، قبل سبع سنين، أن أهالي غوطة دمشق الذين كانت أرضهم خزان غذاء لسورية كلها، ومعقلاً لثوارها، في مواجهة المستعمرين والمستبدين على مر التاريخ، سيجدون أنفسهم مكرهين يوماً على أن يرضخوا لابتزاز شبّيحٍ ساديٍّ نذل، يعرض عليهم الهتاف بحياة طاغيةِ دمر بلادهم، وشرّد نصف شعبها، حتى يمنحهم جرعات ماءٍ لأطفالهم الناجين من مذابح براميل المتفجرات وصواريخ سكود وغاز السارين؟
ذلك، لمن لا يعرف، حدث وقع فعلاً، ووثّقته تسجيلاتٌ مصورة، يمكن لمن يشاء أن يجدها بنقرة واحدة على محرّكات البحث في شبكة الإنترنت، لكنه لم يعد، على الرغم مما يفيض به من وحشية مروعة، مجرد سلوك فريد أو شاذ أو عابر في سيرة نظام حكم بشار الأسد، كما في سيرة أنظمة حكم عربية أخرى كثيرة، نراها اليوم تتجاوز خلافاتها، لتأتلف على قاسمٍ مشتركٍ أعظم، هو منع الناس من أن يقولوا رأيهم في راهن أوطانهم ومستقبلها، ناهيك عن أن يعودوا إلى الشوارع مجدّداً، ليهتفوا مطالبين بالحرية والكرامة الإنسانية والعدل الاجتماعي.
ففي مصر، مثلاً، تجرؤ محافظ مدينة البحيرة، وهي امرأة، ومهندسة، تدعى ناديا عبده، على أن تبتزّ مواطنيها بأسلوب يشبه جوهرياً ما فعله شبيحٌ برتبة نائب في البرلمان السوري، حين تعلن، في برنامج تلفزيوني، أنها ستكافئ القرى والمراكز التي ستشهد إقبالاً كبيراً على الانتخابات التي يتنافس فيها الرئيس عبد الفتاح السيسي صورياً مع أحد مؤيديه بحل المشكلات التي يعانون منها، في المياه والصرف الصحي.
عليك إذن، إن طالبت، أو حتى فكرت، بالحرية والكرامة والعدل، أن تتوقع حرمانك من الماء والغذاء والدواء. أليس هذا هو فحوى عبارة “بدكن حرية؟!” التي صرخ بها رجل أمن سوري، حين كان يسحق تحت قدميه أحد المتظاهرين في أيام ريعان الربيع العربي؟ أليس هذا هو ما يحدث كذلك في اليمن، وقد بات الملايين من أبنائه في أتون الموت جوعاً ومرضاً، ينتظرون، بعد سبع سنين، من ثورتهم السلمية، إعادة تتويج أحد ورثة الرئيس المخلوع، والمقتول لاحقاً، علي عبد الله صالح، زعيماً عليهم؟ أليس هذا هو أيضاً ما يتعرّض لها قطاع غزة، وقد صار الأعداء، ومعهم الإخوة الأعداء، يشترطون تخلي مقاومته الوطنية عن سلاحها، نظير حصول مليوني إنسان من أبنائه، على أدنى حقوق العيش الآدمي؟
ستضيق هذه المساحة بالأمثلة الفاضحة على اتخاذ “النظام الإقليمي والدولي العميق” قراراً صارماً بإجهاض الأمل قبل ولادته، وباستخدام كل وسائل التجويع والقمع والتنكيل والقتل والإبادة الجماعية، لإحداث وقائع تقول خلاصاتها إن كل محاولةٍ للتغيير في العالم العربي ستؤدي به إلى وضع أسوأ مما كان فيه.
إنهم يعلنونها الآن على الملأ: هذا قدركم الأخير والنهائي الذي لا خلاص لكم منه، أيها العرب جميعاً، وإياكم أن تظنوا، لحظةً، أن قتل الملايين من شعوبكم بشتى أنواع الأسلحة الفتاكة، يمكن له أن يتساوى في معايير الغرب مع اقتراف خطيئة استخدام رذاذ قليلٍ من سلاح كيميائي، لاغتيال جاسوس على أرض أوروبية.
وعليكم أن تدركوا حقيقة مكانتكم، وتقتنعوا بها، من دون أن تسألوا عن معنى أن تبادر عواصم الدول الكبرى والمتوسطة والصغرى التي صمتت دهراً على قصف بيوتكم بالصواريخ الروسية وسواها إلى تفجير أزمة دبلوماسية غير مسبوقة، مع موسكو، وطرد مئات من دبلوماسييها، للاشتباه بمحاولتها قتل شخص واحد.
هنا، أي على مرمى حجر أو قذيفة من البلدان العربية المنكوبة، تقع دولة اسمها إسرائيل. وثمّة لهذا الجوار شرطان مترابطان عضوياً، أولهما أن لا تقوم فيه قائمة لدول أخرى حقيقية. وثانيهما أن يشتري طغاة كياناتها الكرتونية وصولهم إلى مناصبهم، وبقاءهم فيها، بثمنٍ يراوح بين سفك دم المتمردين من شعوبهم قرباناً لتل أبيب ودفع مليارات الدولارات من خيرات بلادهم جزية لواشنطن.