لم يقتصر الأمر على مرة واحدة، فلطالما تردد العديد من المعارضين “التقدميين” السوريين في نسب أي من المجازر الكبرى لقوات الأسد، منها مجازر الكيماوي، سابقاً في الغوطة، وليس آخراً في خان شيخون.
مع ملاحظة أن هؤلاء، وفي جرائم أخرى لقوات الأسد نفسه، لا يتوانون عن الإشارة له، بل والإدانة دون البحث والتمحيص في الأدلة والقرائن والصور، وبطبيعة الحال، لم يترددوا مرة بإدانة جرائم وانتهاكات المجموعات التي تقاتل نظام الأسد، إن كانت هذه الجماعات من صلب الثورة في الفترات السابقة، أو كانت من الجماعات الراديكالية التي تُحسب، (بغير حق، لكن بحكم الواقع) على ثورة السوريين.
طبعاً إشارتي لهكذا أمر هنا، لا تأتي لنفي الجرائم التي ارتكبتها أي مجموعة، فأي جريمة وأي انتهاك هو مدان، ويجب أن يؤدي بمرتكبيه إلى المحاكم، بغض النظر عن هوية هذا المرتكب.
لكن، حقاً لماذا تتبدى لدى بعضهم عقلانية مفرطة في التريث والتدقيق في الأدلة، فقط في حالة الارتكابات الكبرى لنظام الأسد كالهجمات الكيماوية المتكررة، أو في المجازر المروعة التي تتناقلها الشاشات العالمية، والتي يصنفها القانون الدولي كجرائم حرب، أو جرائم ضد الإنسانية؟ هل لأن استخدام السلاح الكيماوي ضد المدنيين الأبرياء قد يؤدي إلى تغيير، لا يريدونه، في الرأي العام العالمي، والذي يمكن أن يستجرّ تحركاً دولياً (تدخل خارجي غير شرعي، حسب تصوراتهم الوطنية بالغة الخصوصية لطبيعة التدخلات المتشابكة في سوريا)، مما قد يؤدي إلى الإطاحة بالأسد وانهيار دولته؟ الأمر الذي يعتبرونه خيانة للمبادئ الوطنية، وتهديداً بانهيار النظام (اقرأ الدولة بحسب تعبيرهم) برمته، وهذا ليس في برامجهم التي، حتى وإن بدت حازمةً ظاهرياً في بعض الأحيان، فهي بالعمق، أقلّه النفسي، لا تتضمن إسقاط نظام الأسد وتفكيك تركيبته التي امتدت جذورها خلال عقود في عمق المجتمع السوري، وأودت بكل ملمح طبيعي لدولة طبيعية معاصرة.
في أكثر من محطة خلال الحدث السوري، وكلما بدت ولو إشارات ضعيفة، لاحتمال تدخل خارجي (لم يحدث، ولم يكن ليحدث) ينهي مأساة السوريين، فإننا نرى هؤلاء يسارعون لإشهار “كاتالوك” المعايير الوطنية، في وجه ملايين الضحايا من أهالي الشهداء والمعتقلين، ومن المدمرة بيوتهم واللاجئين، معددين لهم مثالب هذه الطريقة للتخلص من المجرم، وكيف أنها لا تستجيب كما ينبغي لتلك المعايير الحسّاسة، فهل هم حقاً النخبة الأكثر وطنية من باقي السوريين العملاء المُفرِّطين بوطنيتهم؟
هل يشعر هؤلاء بأنهم يقدمون للسوريين تنازلاً سياسياً سخياً، بموافقتهم على إزاحة شخص الأسد، وربما البعض من أشخاص عائلته، شرطَ الإبقاء على المكاسب التقدمية (جداً) التي جلبها نظام البعث والأسد لسوريا؟ وفي حالات من المواربة المتذاكية، فإنهم يُسوّقون تخوفهم الحقيقي على شكل حرص على البنى التحتية من الاستهداف الغربي، (الذي ينفذ أجندات صهيونية أردوغانية قطرية وهابية.. الخ الخ)، الذي سيقوم بتدمير هذه البنى، تحت ذريعة ضرب قوات النظام، معتقدين أن ما نجا من تدمير الأسد سوف تكمله هذه القوى الخارجية المتآمرة، بالتعاون مع “الطابور الخامس” من عملاء الداخل من المعارضين الرَخوين وطنياً؟
كان أصدقاؤنا هؤلاء يتخوفون في الفترات السابقة من سيطرة الجماعات الإسلامية المتطرفة على السلطة، فيما لو سقط الأسد فجأة، وخارج حلولٍ متأنية (وهم هنا، للغرابة، يتفقون حول هذه النقطة مع الغرب المتآمر).
كان أصدقاؤنا هؤلاء يتخوفون في الفترات السابقة من سيطرة الجماعات الإسلامية المتطرفة على السلطة، فيما لو سقط الأسد فجأة، وخارج حلولٍ متأنية (وهم هنا، للغرابة، يتفقون حول هذه النقطة مع الغرب المتآمر).
طبعاً هذه التخوف لم يكن بعيداً عن الواقع، بحسب موازين القوى العسكرية الداخلية على الأرض، في العديد من الفترات. لكن كيف نستطيع النسيان بأن تخوفاتهم تلك وتشكيكهم بهوية الفاعلين في الجرائم الكبرى، بدأت (أقلّه) عام 2012 مع مجزرة الحولة التي هزت صورها العالم، وعندما لم تكن الكتائب الإسلامية قد ظهرت بعد، فضلاً عن أنها لم تكن تتسيَّد المشهد العسكري السوري، كما هو الحال في الفترات التالية؟
كحال كل من يخوض في معالجة موضوعٍ ما، كنت أتمنى لو أنني أطرح كل تلك الأسئلة لأجيب عنها، أو حتى على البعض منها. لكن للأسف فإن أي مغامرة للوصول إلى إجابةٍ سوف تنبني، في حالتنا هذه، على قراءةٍ مُرّةٍ جداً للنوايا، الأمر الذي سيبدو وكأنه تبصير في فنجانٍ سماكةُ البُنّ المترسب فيه قد تؤدي لمهالك (نفسيّة)، لطالما حاول الكثيرون من العقلانيين (أرجو أنني منهم) تجنبها، إضافة إلى أنه وفي هذا المجال بالذات، لا يمكن حقاً لأي أحد ادّعاء امتلاك إجابة مقنعة لأسئلة تبدو كأحجيةٍ يزداد غموضها كلما تقدمنا على محور زمن الحدث السوري.
وهنا في هذه الوقفة، فإن أقصى ما يمكن أن أتمناه، هو أن يأتي يوم نسمع فيه إجابات عميقة وشفافة ممن يعتقدون أنهم معنيون بالتصدي لهذه الأسئلة المريرة، حتى ولو بدت لهم أسئلةً اتهاميّةً، وهي كذلك، أو على الأقل توشك أن تكون، وإن لم تكن هناك من إجابات، وهو الأرجح، فسوف يرضيني الاكتفاء بمُسلّمةٍ من مُسلمات رهاننا الشائك أنْ “المَجدُ للأسئلة”.