بعيداً عن صخب الحرب وتعدد أزماتها، والتي دفعت الكثير من النساء السوريات إلى خوض تجارب قاسية وصعبة في سبيل إعالة أسرهن، باتت مشاهد النساء العاملات في الأسواق اعتيادية بعد أن كانت غير مألوفة، إذ تمكنت مجموعة منهن وفي خطوة جريئة من نوعها من كسر حاجز الصورة النمطية السائدة في مجتمعنا المحافظ، والتي تقتضي بخصوصية المقاهي للرجال فقط.
وتعقيباً على ذلك تقول الناشطة “براءة الغدير” إحدى المقيمات في مدينة القامشلي: إن “مدناً سورية كثيرة شهدت مثل هذه الظاهرة خلال السنوات السابقة، وافُتتحت فيها (مقاهٍ نسائية) بالكامل لتكون الأولى من نوعها في البلاد التي تعيش حرباً دامية منذ أكثر من عشر سنوات، ما جعل نسبة النساء فيها تزيد عن الـ60 % مقارنة بحوالي 49% عام 2010 وماسبقه”.
وأضافت “براءة” في حديث خاص لها مع منصة SY24، أنه “لا تقتصر حالة (التمرد) كما يُطلق عليها فئة من المجتمع بين نساء اللواتي خرجن عن المألوف بأفكارهن ونمط حياتهن المختلف على الآراء النظرية، بل ظهرت العديد من المشاريع التي باتت ترسم ملامح أكثر إيجابية عن كيفية تفعيل دور المرأة في المجتمع السوري وزيادة الوعي بحقوقها، وعدم الرضوخ للفكر التقليدي الذي لا يؤمن بمبدأ المساواة بين الرجل والمرأة”.
قد يستهجن البعض فكرة أن يكون للمرأة كافيه خاص يعزلها عن الرجل في وقتِ تعلو فيه صيحات عدم الفصل بين الجنسين، وقد يظن البعض الآخر المُتأثر بالصور النمطية عن النساء أنّ مثل هذه المشاريع تُشرف عليها وترتادها نساءٌ لهنّ موقفٌ معادٍ للرجل ويعانين من عقدٍ نفسية.
وفي هذا الجانب تقول “منال الخلف”: “بدأت العمل مع عدد من النساء الآخريات منذ أكثر من عامين على افتتاح مقهى ( كاردينيا )، لكننا لم نعتبره مجرّد مكانٍ تتشارك فيه النساء همومهن، ويتبادلن المساعدة لإيجاد حلول لمشكلاتهن وحسب، بل إنه يشكل دعماً لهنّ في العديد من المجالات العملية”.
وأضافت “منال” قائلة “استوحينا فكرة المقهى ليكون أول فضاء نسائي في المنطقة يعرض من خلاله ما تنتجه الفتيات المهتمات بالأعمال اليدوية وصنع الإكسسوارات، ورسم اللوحات الفنية، مما يمكنهنّ من الترويج لأعمالهن وتحقيق ربحٍ ماديٍ معقول، في ظل الصعوبات التي تعانيها الفتاة السورية للحصول على عمل مناسب”.
وزادت قائلة: إن “غالبية زبائننا أصبحنا يشبهن (كاردينيا) بــ (بيت الصديقات) كونه يقع في وسط السوق، ويجمع بين الفتيات اللواتي تُفرّقهن بعد المسافات بين منطقة وأخرى”.
وتصرّ “منال” على أن تترافق النشاطات التي تقام بين الحين والآخر، بأهداف أخرى غير الترفيه وتمضية الوقت. ففي تشرين الأول “أكتوبر” الماضي، عُرضت في الكافيه بالتزامن مع حملة الكشف المبكر عن “سرطان الثدي” العديد من الأفلام التوعوية بأخطار السرطان، وضرورة الاستجابة للحملة لتفادي عواقب المراحل المتقدمة من هذا المرض.
من جانبها، “تهامة” التي بدأت العمل بتحويل قسم من غرفتها وفناء منزلها إلى مقهى ثقافي لا يستقبل إلا النساء تحت مسمى (كافيه متة)، فتقول: :ليس (كافيه متة) مجرد مقهى يقدم المشروبات والأكل فحسب، بل إنه يمنحهن فرصة لممارسة أنشطة ثقافية وترفيهية مختلفة”، مضيفةً بأنه الأول من نوعه في المنطقة الشرقية من سوريا، يقدم لزبوناته قائمة مشكلة من أنشطة ثقافية متنوعة بدءً من مكتبة زاخرة بالكتب، ووصولاً إلى تخصيص فضاء للرسم والتلوين والعزف.
وأشارت “تهامة” القائمة على إدارة الكافيه، إلى أنها اختارت للمقهى تسمية “متة” نسبة إلى اسم المشروب الشعبي الساخن، والذي تتميز به غالبية المدن السورية.
لم تختلف وظيفة المقهى عبر العصور، ولم تتغير عوامل الجذب التي كانت سابقاً عنها في الوقت الراهن، فكان المقهى على اختلاف أجناسه وما زال محطة للراحة والاستجمام، وتناول الأحاديث وطرح الهموم ومناقشة صعاب الحياة.
وفي هذا الصدد تقول “سمية السعدي ” التي تعمل محاسبة في أحد مقاهي الحسكة: “تنقلت بهذه المهنة بين المقاهي منذ أكثر من ثلاث سنوات، وذلك عندما أصبح وجود وجه أنثوي في المقاهي أسلوباً مستحدثاً يلجأ إليه أصحابها لجذب الزبائن، وخصوصاً الفتيات والنساء، فالمعاملة الحسنة والابتسامة اللطيفة هي أساليب متمدنة تنشر الوداعة والاطمئنان لاستقبال الزبائن من الجنسين.”.
أمّا فيما يخص معاناة العاملات في هذا المجال فتضيف “سمية”، أن الضغوط والمتاعب التي تتسبب بها هذه المهنة تزيد عنها في مهن أخرى، فموظفة المقهى مطالبة بمجاملة الجميع، وتحمُّل المشاكسات والنظرات للكثير من الرواد، بعضهم مستنكرون وآخرون معجبون.
وأشارت إلى إنه على الرغم من كل الانتقادات التي تعرضنا لها الفتيات العاملات بهذه المشاريع من قبل الجنسين، وإن تم اعتبارها من مظاهر “الفيمينيست”، لكنها باتت أمراً ملحاً لخلق فضاءات عصرية توفر الخدمات التي تتوق إليها المرأة السورية.