في زاوية من فناء الدار، بمنطقة “دير حسان” شمالي إدلب، ثبت “أبو خالد” فرن التنور الطيني الذي اشتراه من مدينة “أرمناز” المشهورة بصناعة الفخار والأفران الطينية قبل شهر تقريباً، واستعان بقليل من الإسمنت والأحجار لصنع مسطبة ملساء، يسهل الجلوس عليها وصنع الخبز والفطائر.
يقول “أبو خالد” في حديث خاص مع منصة SY24، مستذكراً منزله في قرية “معرة حرمة” بريف إدلب الجنوبي قبل نزوحه إلى الشمال: “يكاد لا يخلو منزل في البلدة قديماً من تنور حجري أو طيني، كونه ركناً مميزاً بفناء البيوت الريفية، يجمع العائلة حوله في جلسات متكررة، لصنع الخبز والفطائر وأقراص دبس الفليفلة الحمراء، كانت أيام بركة وخير نفتقدها اليوم في النزوح”.
لم يكن صنع فرن تنور في منزل “أبو خالد” إلا محاولة منه لنقل طقوس الفرح والخير القديمة إلى منزله الحالي، يقول: إن “الأهالي من أبناء الريف يحنون إلى تلك التفاصيل التي كانت في منازلهم، وأفران التنور واحدة من أهم الأشياء التي لا يستغنون عنها، وقد زاد الإقبال على صنعها أو شرائها في ظل أزمة الغلاء المعيشي وارتفاع أسعار الخبز العادي، والتغير المستمر في وزنه، ما جعل أفران التنور ضرورة عند بعض الأهالي، لصنع الخبز، بدل من شرائه من الأفران”.
تكثر ورش تصنيع الأفران الطينية في ريف إدلب كمدينة أرمناز وكفر تخاريم وملس، وتعد بالنسبة لبعض الأهالي مهنة ومصدر رزق، وفي الفترة الأخيرة زاد الطلب عليها، حيث يتراوح سعر التنور من 80 إلى 150 ليرة تركية حسب حجمه وسماكة جدران.
يقول “أبو خالد” عن طريقة صنع التنور: “كنا نصنع التنور في بلدتنا من تراب يسمى الحال، وهو أفضل أنواع الأتربة، يعطي التنور ملمس ناعم جداً، لكنه لم يعد موجود اليوم في الشمال، وتم استبداله بتراب أسود، يخلط التراب بخيوط الخيش التي تجعل قوامه متماسك أكثر، مع إضافة تربة بيضاء تستخرج من الآبار الجوفية، حيث تمزج الأتربة وخيوط الخيش مع بعضها، ويشكل منها فرن التنور بأحجام ومقاسات مختلفة”.
يتميز خبز التنور بطعمه اللذيذ، وقوامه الطري، وبأنه يبقى عدة أيام بعد خبزه صالح للطعام، دون أن يتكسر أو يصبح قاسي، وجد أبو خالد كغيره من الأهالي في الريف الشمالي، أن صنع الخبز في التنور أوفر من شرائه من الأفران، خاصة للعائلات التي تستهلك كمية كبيرة من الخبز يومياً، ويشير إلى أن زوجته تخبز حوالي عشر كيلو من الطحين، تكفيه لمدة أسبوع كامل، ويصنع أقراص الزعتر والمحمرة للفطور أيضاً كلما أشعل التنور وخبزه عليه.
كما أن بإمكان جميع أهل الحي الذي يسكنه أن يصنع خبزه في التنور، حيث لا يمكن صنع التنور في المنازل الطابقية أو في بعض المخيمات المتلاصقة ببعضها.
يعتبر فرن التنور في منزل الحجة “أم جميل” بمدينة كفر تخاريم ركناً أساسياً من المنزل، رافقها من أيام صباها حتى اليوم، ترممه كل فترة وتحرص على استخدامه هي ونساء أسرتها وأقاربها بشكل دائم.
تستيقظ “أم جميل” باكراً، بعد أن حضرت كمية كبيرة من العجين، تساعدها ابنتها ميساء وجارتها التي حضرت عجينها أيضاً.
تلوح النسوة قطع العجين الصغيرة بحيث تكبر بعدة حركات سريعة وخفيفة، يصبح رغيف الخبز بحجم مناسب، تلصقه في التنور بعد وضعه على “الطارة” القماشية.
بعد انتهاء من صنع الخبز الطازج، يأتي دور المناقيش والفطائر، تقول “أم جميل”: “ما في أشهى من رائحة الخبز الطازج وفطائر الزيت والفليفلة مع كأس الشاي”.
يعود خبز التنور في مدينة إدلب إلى الواجهة، بين طقس تراثي يحييه الأهالي المتعطشون إلى قراهم ومنازلهم الريفية، وبين الحاجة إلى صنع الخبز بما توفر لديهم من طحين المساعدات بعيداً عن أسعار الخبز المرتفعة وصعوبة الحصول على مخصصاتهم اليومية.