الذكرى الخامسة لتهجير سكان حي الوعر حاضرة في الشمال السوري

Facebook
WhatsApp
Telegram

خاص – SY24

“الطعام بلا ملح، يا إلهي لقد نسيت الملح! صاحت “فاتن 39 عام ” وهي أم لثلاثة فتيات صغار بعد أن تذوقت أول لقمة من وجبة غداء اليوم “ملوخية مع الأرز” أكلة شهية تحبها عائلة فاتن منذ كانت في “حُمص” كما تحرص على نطقها دواماً.

أخدتها ذات النكهة إلى أيام الحصار في حي الوعر، حيث تناولت لأول مرة “الملوخية” بلا ملح، وغيرها من الأكلات، بعدما أصبح الحصول على الملح والسكر والخبز وباقي المواد الغذائية الأخرى أمراً بالغ الصعوبة، في ظل الحصار الطويل على الحي.

تحضر الملح من المطبخ لتعديل نكهة الطعام، تقول في نفسها “كم هو ضروري رغم بساطته، لا أحد يعرف قيمة الملح إلا من عاش الحصار أيام الوعر لا أعاده الله علينا”. 

تسرد في حديثها إلينا، كيف بدأت الأطعمة والمواد الغذائية تنفذ من البيوت والدكاكين التجارية بشكل تدريجي، حتى وصلت لمرحلة الحصار المطبق على المنطقة، تذكر في تاريخ 9 من تشرين الأول 2013، أول بوادر الحصار حيث منع دخول الخبز وسيارات المواد الغذائية والمحروقات إلى الحي، وفي تشرين الثاني منع الدخول والخروج إلى الحي نهائياً باستثناء طلاب الجامعات والمعلمين والموظفين.

عاشت “فاتن” وبناتها الثلاثة مع جدتهم المريضة في منزل واحد، في حين سكن في بيت أخيها ثلاث عائلات مع أطفالهم بعد ما أصبح الحي وجهة النازحين والهاربين من بطش النظام. 

أطبق الحصار بشكل كامل على الحي الذي كان يحوي قرابة مئة ألف شخص بداية الأحداث وسرعان ما استقطب حوالي خمسمئة ألف شخص آخرين، بعدما أصبح المكان الوحيد الخارج عن سلطة النظام في مدينة حمص.

مع كل لقمة، تذكر لنا كيف كانوا يأكلون في حي الوعر، أو كما قالت” لا يأكلون” بل هو مجرد تسكين للجوع ببعض الفتات من الخبز إن وجد، للبقاء على قيد الحياة.

نفذ الخبز مع أول يوم للحصار، وشيئاً فشيء نفذ الطحين ولم يبقَ إلا ما تخزنه الأمهات في بيوتهن، من مؤن، وحبوب كالبرغل، والأرز والعدس.

أكثر ما كان يحز في قلوب الأمهات هو بكاء صغارهن من الجوع دون الهداية لحيلة تسعفهم في سد جوع أطفالهم وإشباع معدتهم الخاوية.

زعتر بلا زيت، خبز قاس من الأرز المطحون المخلوط بقليل من الطحين هو كل ما لديهم، 

لا تنسى ” فاتن” تلك الدمعة في عيون جاراتها وهي تقف على بابها في أحد الأيام تستعير أي شيء لطفلها كي تسكت جوعه، تفرك يديها ببعض بحركة تثير التساؤل “ماذا أفعل، ابني لح يموت من الجوع ما في شي طعمي، مشان الله أعطيني أي شي”.

“ميت مابشيل ميت” حضرتها تلك الجملة أول ما رأت جارتها ثم قالت: “لكننا في موقف يجب أن نكون أحياء رغم الموت المحيط بنا، لننقذ أطفالنا، أعطيتها بعض الخبز و صحن برغل صغير كان آخر ما تبقى لدي من الحبوب وقتها”.

منع النظام في هذا الحصار إدخال الأدوية وحليب الأطفال إضافة للمواد الغذائية، مع قصف جوي على الأهالي، حيث تعرض حي الوعر للمرة الأولى لقصف الطيران الحربي الميغ، في 28 من تشرين الثاني عام 2013. 

” فاتن” لا تنسَ ذلك اليوم أبداً قضته مع باقي النساء والأطفال في الملاجئ هرباً من القصف والموت كأحد طقوس القصف الذي لا يفارقهم. 

تنهي “فاتن” طعامها، الذي ازداد ملوحة هذه المرة، فللدموع فعلها الذي غاب عنهم أثناء الحصار، ثم تشرح لنا كيف كانت تدخل بعض الأغراض والمواد الغذائية كل فترة إما عن طريق التفاوض أو عن طريق تجار الأزمات بأسعار خيالية، ولكن أكثر ما حصلت عليه شخصياً من طلاب الجامعات والموظفين حيث سمح لهم بإحضار كيلو واحد فقط من صنف محدد إما يأخذوه لعائلاتهم أو يوزعونه على المحتاج من أقاربهم وكثير منهم يبيعه بأسعار مرتفعة ليربح من جوعهم. 

في ذات المرات اشتركت هي وأهلها وأخوها لشراء نصف كيلو من الملح وصل ثمنه لـ 11 ألف ليرة وقتها! ثم قالت “لا قيمة للمال بحضور الجوع، كما لا نكهة للطعام بدون الملح، واعتدنا حينها على التقتير في كل شيء بالسكر والملح والخبز، حتى يكفينا القليل لمدة أكبر”. 

وصل كيلو السكر والرز وعلبة الزيت لـ 3000 أو أكثر حسب التجار، وحتى مواد التنظيف من شامبو وصابون ارتفعت أيضاً بعد فقدانه من المحلات لا شيء بقي كما هو إلا قيمة الإنسان باتت أرخص الأشياء. 

انتهت سنين الحصار بعد مفاوضات بتهجير المقاتلين وعائلاتهم والمدنيين الرافضين العودة إلى حضن النظام، فتقرر الإخلاء إلى ثلاث مناطق جرابلس وإدلب، فئة قليلة إلى ريف حمص الشمالي، وذلك في يوم 18 آذار 2017 عندما خرجت الدفعة الأولى لآخر إخلاء، ثم تبعتها دفعات أخرى بشكل متتالي أسبوعياً. 

لا تغيب الذكريات عن الأهالي الذين تجرعوا مرارة تلك الأيام من قصف وحصار وموت يطارهم، تتذكر “فاتن” اليوم في اقتراب ذكرى التهجير الذي شهده حي الوعر في مدينة حمص، وتغالب دموعها حنيناً شوقاً الى العودة لديارها.

مقالات ذات صلة